إن ذكر الله تعالى هو جوهر حياة المسلم وروح العبادة التي تُقرِّب العبد من ربه. إنَّ القلوب لا تحيا إلا بذكر الله، والنفوس لا تسكن إلا بطمأنينة تستمدها من أنوار الإيمان. فالذكر مفتاح للخير في الدنيا والآخرة، وعليه تقوم العلاقة بين العبد وربه، إذ قال تعالى: (“فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ”) (البقرة: 152).
ما هو الذكر؟
الذكر : هو ما يجرى على اللسان والقلب من تسبيح الله تبارك وتعالى وتنزيهه وحمده ، والثناء عليه ، ووصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال.
وقد أمر الله تعالي بالإكثار منه فقال :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا). ( الأحزاب : ٤١ ، ٤٢ )
وأخبر أنه يذكر من يذكره ، فقال جل شأنه : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) ، وقال في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني : فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملا ذكرته في ملأ خير منه ، ، و وإن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً ، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة )
وأنه ـ سبحانه - اختص أهل الذكر بالتفرد والسبق ، فقال رسول الله ﷺ (سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : ( الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) ، رواه مسلم .
وأنهم هم الأحياء على الحقيقة .. فعن أبي موسى - رضي الله عنه ـ أن النبي ﷺ قال : ( مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكر : مثل الحي والميت ) رواه البخاري
الذكر رأس الأعمال الصالحة
من وفق له فقد أعطى خيرا كثيرا ، ولهذا كان رسول الله يذكر الله على كل أحيانه ، ويوصى الرجل الذي قال له : إن شرائع الإسلام قد كثرت على فأخبرني بشيء أتشبث به ، فيقول له : ( لا يزال فوك، فمك، رطباً من ذكر الله )
ويقول لأصحابه : ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله ) رواه الترمذي وأحمد والحاكم .
والذكر سبيل النجاة . فعن معاذ رضى الله عنه، أن النبي ﷺ قال : ( ما من عمل آدمى عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل) ، رواه أحمد .
وقال أيضاً : ( إنَّ مما تذكرون من جلالِ اللهِ : التَّسبيحَ والتهليلَ والتحميدَ ، ينعطِفْنَ حولَ العرشِ ، لهن دويٍّ كدويِّ النحلِ ، تُذَكِّرُ بصاحبها ، أما يحبُّ أحدُكم أن يكونَ له، أو لا يزالُ له من يُذكِّرُ به ) .
فذكر الله في الحقيقة استحضار عظمة الله تعالى وجلاله وكماله استحضاراً قلبياً يبعث على الخشية والمراقبة ، ولا بد أن يكون الذكر مصحوباً بالفكر ، كما قال تعالى :
(إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ (190) ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ). ( آل عمران : ۱۹۰ ، ۱۹۱ )
الأمر الإلهي بذكر الله كثيرًا
وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يذكروه كثيراً ، فقال عز من قائل : (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا) ( الأحزاب : ٤١ )
وفي صحيح مسلم عن رسول الله ( سبَق المُفرِّدونَ سبَق المُفرِّدونَ ) قالوا : يا رسولَ اللهِ ما المُفرِّدونَ ؟ قال : ( الذَّاكرونَ اللهَ كثيرًا والذَّاكراتُ )
قال ابن عباس : المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً وفي المضاجع ، وكلما استيقظ من نومه ، وكلما غدا أو راح ذكر الله تعالى .
وقال مجاهد : لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً أى على كل حال في حركاته ومشيه وسكونه ونومه ، ومعنى ذلك أن يستحضر عظمة الله وجلاله وكماله في جميع شئونه ، كما أخبر بذلك الصادق الأمين ﷺ وهو يجيب على سؤال جبريل : ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وقد أمر الله - جل ذكره - بأن يُذكر ذكراً كثيراً ، ووصف أولي الألباب الذين ينتفعون بالنظر في آياته بأنهم :(الذين يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وعلى جُنُوبِهِم ) ( آل عمران)(والذَّاكِرِينَ الله كثيراً والذاكراتِ أَعَدَّ اللهُ لهم مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ). ( الأحزاب : ٣٥ )
وسئل ابن الصلاح عن القدر الذى يصير به من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات ، فقال : إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساء ، في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً ، كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات .
كيف تذكر الله
ليس الذكر قاصراً على تحريك الألسنة والشفاه ، إنما الذكر على سبعة أنحاء ، فذكر العينين البكاء ، وذكر الأذنين الإصغاء ، وذكر اللسان الثناء ، وذكر اليدين العطاء ، وذكر البدن الوفاء ، وذكر الروح الخوف والرجاء ، وذكر القلب التسليم والرضاء .
إن الله - تعالى - لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً ، وعذر أهلها في حال العذر غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدم ينتهى إليه ، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه فقال : ( فاذكروا الله قياماً وقُعُوداً وعلى جنوبِكُم ) ( النساء : ١٠٣)
بالليل والنهار ، في البر والبحر ، وفى السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال .والذكر يشمل كل الطاعات . قال سعيد بن جبير : كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله .
وقال القرطبي : مجلس ذكر يعنى مجلس علم وتذكير وهي المجالس التي يذكر فيها كلام الله وسنة رسوله وأخبار السلف الصالحين وكلام الأئمة الزهاد المتقدمين المبرأة عن التصنع والبدع والمنزهة عن المقاصد الردية والطمع .
أنواع ذكر الله
ذكر الله تعالى لا يقتصر على صيغة واحدة، بل يشمل أنواعًا كثيرة، منها:
- التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير: هذه الأذكار هي أحب الكلام إلى الله، كما قال النبي ﷺ: “أحب الكلام إلى الله أربع: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر”) (رواه مسلم).
- تلاوة القرآن الكريم: القرآن الكريم هو أعظم ذكر لله، وتلاوته من أجلِّ العبادات. قال تعالى: “إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ” (الإسراء: 9).
- الأدعية والأذكار اليومية: وتشمل أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والاستيقاظ، وأذكار الدخول والخروج من المنزل، وغيرها مما ورد عن النبي ﷺ.
- الصلاة على النبي ﷺ:قال رسول الله ﷺ: “من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه عشرَ صلواتٍ، وحُطَّتْ عنه عشرُ خطيئاتٍ، ورُفِعَتْ له عشرُ درجاتٍ” (رواه النسائي).
- التفكر في آلاء الله: النظر والتفكر في خلق الله هو من أعظم صور الذكر، إذ قال تعالى: “وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (آل عمران: 191).
ثمرات ذكر الله تعالى
ذكر الله يجلب للمؤمن العديد من الثمرات والفوائد، ومنها:
- الحفظ من الشيطان: الأذكار تحمي العبد من وساوس الشيطان وأذاه.
- زيادة الإيمان وتقوية الصلة بالله: الذكر يزيد الإيمان ويجعل العبد أقرب إلى ربه.
- غفران الذنوب: قال رسول الله ﷺ: “من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر” (رواه مسلم).
- نور في القلب والوجه: الذكر يضيء القلب ويجعل وجه صاحبه مشرقًا بنور الإيمان.
- راحة النفس وطمأنينة الروح: الذكر يزيل الهموم ويبعث الطمأنينة في النفوس.
- الفوز برضوان الله: قال تعالى: “وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمًا” (الأحزاب: 35).
كيفية المداومة على ذكر الله
للمسلم أن يتخذ وسائل عديدة للمداومة على ذكر الله، ومنها:
- وضع جدول يومي للأذكار: تخصيص أوقات محددة لأذكار الصباح والمساء وأذكار الصلاة.
- حمل كتيب أذكار صغير أو تطبيق هاتفي: يساعد ذلك في التذكير بالأذكار في أوقات الفراغ.
- الاستماع إلى الأذكار المسجلة: يمكن الاستفادة من الأذكار الصوتية أثناء العمل أو القيادة.
- مجالس الذكر: الحرص على حضور حلقات الذكر في المساجد أو عبر المنصات الإلكترونية.
خاتمة: إن ذكر الله تعالى هو مفتاح السعادة وسبيل الفلاح، به تحيا القلوب وتسكن النفوس، وبه يقترب العبد من ربه وينال رضاه. فلنحرص على أن يكون ذكر الله دائمًا على ألسنتنا وفي قلوبنا، ولنجعل أوقاتنا عامرة بذكره وشكره وحسن عبادته. قال الله تعالى: “وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا” (المزمل: 8).