أحوال العرب الاجتماعية والأخلاقية قبل الاسلام

أحوال العرب الاجتماعية والأخلاقية قبل الاسلام
تحدثنا فى المقالة السابقة عن الأحوال الدينية والسياسية والاقتصادية وسنتحدث فى هذة المقالة عن الأحوال الاجتماعية والأخلاقية عند العرب تحمل في طياتها الكثير من التحولات التي أثرت في مسيرتهم التاريخية. 

الحالة الاجتماعية 

في مجتمع العرب القديم كانت تتميز بطغيان التقاليد والأعراف على جوانب الحياة كافة، حيث شكّلت هذه التقاليد ما يشبه القوانين العرفية التي نظمت العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والقبائل. وأصبحت لهم قوانين عرفية فيما يتعلق بالأحساب والأنساب، وعلاقة القبائل ببعضها، والأفراد كذلك ويمكن تلخيص سمات هذه الحالة الاجتماعية كما يلي:

1- الاعتزاز بالأنساب والأحساب والتفاخر بهما: كان العرب يولون أهمية كبيرة لأنسابهم وسلالاتهم، وحرصوا على الحفاظ عليها من خلال الامتناع عن المصاهرة مع أجناس أخرى. إلا أن الإسلام جاء ليواجه هذا المعتقد، مؤكدًا أن التفاضل بين الناس يكون بالتقوى والعمل الصالح، وليس بالأنساب.

2- الاهتمام بالكلمة وقوتها، خاصة الشعر: كان للكلمة الموزونة تأثير كبير في نفوس العرب، واعتُبر الشعر سجلًا لمفاخرهم وأحداثهم، ووسيلة للتعبير عن عواطفهم ومعارفهم. لذا، ارتقت مكانة الشعراء والخطباء في المجتمع آنذاك، وكان للبيت الشعري القدرة على رفع شأن القبيلة أو الانتقاص منه.

3- مكانة المرأة في المجتمع العربي: كانت المرأة تُعامل كجزء من الممتلكات في كثير من القبائل، حيث لا تُورَّث وتُحرَم من أبسط حقوقها، مثل الزواج من اختيارها أو الإرث. انتشرت عادات مثل تزويج الابن بامرأة أبيه بعد وفاته، وهو ما نهى عنه الإسلام في آيات وضحت حرمة ذلك. فنزل قوله تعالى: «وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا» .

وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء، ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة، وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفًا معمولاً به عندهم، إلى أن توفي أوس بن ثابت - في عهد رسول الله ﷺ وترك بنتين كانت بهما دمامة، وابنا صغيرًا، فجاء ابنا عمه - وهما عصبته - فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما : تزوجا البنتين، فأبيا ذلك لدمامتهما، فأتت رسول الله فقالت : يا رسول الله توفي أوس، وترك ابنا صغيرًا وابنتين، فجاء ابنا عمه، سويد وعرفطة، فأخذا ميراثه، فقلت لهما : تزوجا ابنتيه، فأبيا. فقال : لا تحركا من الميراث شيئاً  ونزل قوله تعالى :« لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأقربُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا» [النساء : الآية ٧] .

رغم ذلك، كانت البنات في بعض الحالات تُعد عبئًا على عائلاتهن خوفًا من السبي أو الفقر. وصل الأمر إلى وأدهن أحياءً للتخلص منهن، وهي ممارسة اعتبرها الإسلام جريمة شنعاء وشدد على تحريمها. كذلك، كان هناك قبائل تستقبح هذه الأفعال وترفضها كما هو الحال مع زيد بن عمرو بن نفيل.

وفي الجانب الآخر، حظيت المرأة بمكانة محترمة في بعض القبائل؛ حيث كانت تؤخذ مشورتها في الزواج، وتميزت بالكرامة والحياء، كما شاركت في المهام اليومية مثل رعي الماشية والغزل والنسيج. بالإضافة إلى شجاعتها التي دفعتها للمشاركة في القتال أحيانًا عند الضرورة، مع حفاظها على التعفف والتصون.

4- النكاح: كان العرب في الجاهلية يعترفون بأنواع متعددة من النكاح، كانت شائعة بينهم دون اعتبار بعضها معيباً. وقد أوردت السيدة عائشة -رضي الله عنها- وصفاً لهذه الأنواع، فقالت: كان النكاح في الجاهلية يأتي بأربعة أشكال. 

الشكل الأول مشابه لما هو متعارف عليه اليوم: يخطب الرجل إلى ولي المرأة من أبيها أو من يقوم مقامه، ويقدّم لها المهر، ثم يعقد النكاح.  

أما النوع الثاني، فيُعرف بنكاح الاستبضاع، حيث يُطلب من المرأة أن تستبضع من رجل آخر إذا طهرت من حيضها بهدف الحصول على ولد يتميز بالرجاحة أو النبل، وكان زوجها يمتنع عن المساس بها حتى يتبين حملها، ثم يتولى العلاقة معها مرة أخرى إذا أراد.  

النمط الثالث كان يتمثل في اجتماع عدد محدود من الرجال (أي أقل من عشرة) عند امرأة واحدة في علاقة جنسية. وعندما تحمل، وبعد ولادتها، تدعو هؤلاء الرجال وتختار أحدهم لنَسَب الطفل إليه دون أن يحق لأحدهم الاعتراض.  

أما النوع الرابع، فهو ما كان يحدث مع البغايا، حيث تُنصب رايات على أبوابهن كإشارة لاستقبال من يدخل عليهن. وإذا ولدت إحداهن، استُخدم "القافة" لإلحاق طفلها بالرجل الذي يرونه أنسب له دون اعتراض.  

عندما جاء الإسلام برسالة النبي محمد ﷺ، ألغى جميع هذه الأنواع باستثناء الأول المتمثل في النكاح الشرعي المتوافق مع الضوابط الإسلامية. وقد أشار بعض العلماء إلى أنواع أخرى لم تذكرها السيدة عائشة -رضي الله عنها-، مثل نكاح الخدن، الذي قال تعالى عنه: "وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ"، وهو أقرب إلى الزنا منه إلى الزواج حيث يرتبط الرجل والمرأة بعلاقة غير معلنة. كذلك نُسخت هذه الممارسات مع ظهور الإسلام.  

أيضاً كان شائعاً نكاح المتعة، وهو زواج مؤقت لفترة محددة ينتهي بانتهائها، إضافة إلى نكاح البدل حيث يعرض رجل على آخر أن يتبادلا النساء بالتراضي بينهما. هناك نكاح الشغار الذي يتمثل بتزويج أحدهم ابنته في مقابل زواج الآخر بابنته دون تقديم مهر.  

أما في مسألة التعدد، فقد كان المجتمع الجاهلي يسمح بجمع عدد غير محدود من الزوجات وقد يصل إلى العشرة أو أكثر. لكن الإسلام حدّ هذا العدد بأربع زوجات شريطة قدرة الرجل على الإنفاق والعدل بينهن. وإذا خاف أحدهم عدم تحقيق العدل، هداه الإسلام إلى الاكتفاء بواحدة. كذلك، رفض الإسلام الإساءة للزوجات وعدم العدل في معاملتهن، بل أمر بالإحسان إليهن وحفظ حقوقهن ما لم يُعهد بمثله في الجاهلية.

ه - الطلاق: في الجاهلية كان الطلاق مفتوحاً ودون عدد محدد. يطلق الرجل زوجته ثم يعيدها إليه مراراً دون قيد أو شرط. واستمر هذا الحال في صدر الإسلام حتى نزلت الآية الكريمة: "الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ" [البقرة: 229].  

حدد الإسلام عدد الطلقات بثلاثة مراحل، بحيث يجوز للرجل أن يُراجع زوجته بعد الطلقة الأولى أو الثانية وضمن فترة العدة. أما إذا أوقع الطلقة الثالثة، فإنه لا يمكنه العودة إليها إلا إذا تزوجت برجل آخر زواجاً صحيحاً ثم افترقا. وقد ورد نص ذلك بالآية: "فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ..." [البقرة: 230].  

من الظواهر المرتبطة بالطلاق أيضاً "الظهار"، وهو عندما يشبّه الرجل زوجته بظهر أمه قائلاً: "أنت علي كظهر أمي". وكان ذلك يعدّ تحريماً مؤبداً في الجاهلية حتى جاء الإسلام ووصفه بأنه قولٌ باطل ومنكر وأتاح كفارات للخروج منه. 

6- الحروب والسطو والإغارة: كانت الحروب تقع بين العرب في الجاهلية لأسباب تافهة، دون أن يترددوا في إزهاق الأرواح والدخول في صراعات دموية دفاعاً عن أعراف اجتماعية اكتسبت لديهم مكانة كبيرة، رغم أنها لم تكن ذات قيمة حقيقية. 

وقد سجل التاريخ سلسلة من المعارك المشهورة التي عُرفت بـ"أيام العرب"، حيث يظهر فيها تغلب النزعة الحربية على قدرة العرب للتعقل والتفكير. من أبرز تلك الأيام، يوم البسوس، الذي نشبت فيه حرب بين قبيلتي بكر وتغلب بسبب ناقة كان صاحبها جاراً للبسوس بنت منقذ، خالة جساس بن مرة. قام كليب، سيد تغلب، بقتل الناقة بعدما رآها في المكان الذي حماه لإبله، فثار الجرمي والبسوس. انتهز جساس الفرصة وقتل كليب، مما أشعل فتيل الحرب التي استمرت أربعين عاماً بين القبيلتين.  

كذلك يوم داحس والغبراء، الذي بدأ بسبب سباق بين فرس يُدعى "داحس" يعود لقيس بن زهير، وفرس أخرى تُدعى "الغبراء" تعود لحذيفة بن بدر. دفع حذيفة أحد الأشخاص لعرقلة فرس خصمه أثناء السباق، مما أدى إلى فوز الغبراء بالمسابقة. تسبب ذلك في اندلاع أعمال القتل وأخذ الثأر بين قبيلتي عبس وذبيان.  

كما شهد التاريخ نزاعات مستمرة بين الأوس والخزرج، وهما أبناء عمومة من نسل حارثة بن ثعلبة الأزدي. اشتعلت حروب طويلة بينهما، وكان اليهود العامل المحرك لبعض هذه الصراعات بهدف إضعاف القبيلتين وتعزيز سيطرتهم. وكان يوم "بعاث" خاتمة هذه الحروب حين اقتتل الطرفان واستعان كل منهما بحلفائه، مما أسفر عن انتصار الأوس في النهاية.  

لم تكن النزاعات تقتصر على الحروب فقط بل شملت السطو والغارات بهدف النهب وسبي الأحرار لبيعهم كعبيد. ومن أمثلتها قصة زيد بن حارثة الذي أخذ أسيراً ثم بيع، أو سلمان الفارسي الذي كان حراً وأصبح ضمن هذه الممارسات. لكنه مع ظهور الإسلام قُضي على هذه الآفات الاجتماعية، فأرسى الأمن حتى كان بإمكان الرجل والمرأة أن يسيرا بأمان من صنعاء إلى حضرموت لا يخافان إلا الله والذئب على أغنامهما.

7- العلم والقراءة والكتابة: لم يكن العرب قبل الإسلام أهل علم أو كتاب مثل اليهود والنصارى، بل غلب عليهم الجهل والأمية والتمسك بالتقاليد القديمة حتى لو كانت خاطئة. كانت أمة يغلب عليها عدم القراءة والكتابة، مع وجود قلة قليلة ممن امتلكوا تلك المهارات. ورغم ذلك، تميز العرب بذكاء فطري وفطنة وعمق شعور، إضافة إلى حس مرهف واستعداد قوي لتلقي العلم والمعرفة إذا ما وُجهوا بشكل سليم.  

لذلك، عندما جاء الإسلام تغيّر حال العرب؛ أصبحوا علماء وحكماء وفقهاء، وأزيلت الأمية من صفوفهم حتى صار العلم سمة بارزة لهم. من ضمن مظاهر اهتمامهم بالعلم، برع بعضهم في مهارات خاصة مثل علم القيافة (تتبع الأثر)، كما ضموا أطباءً مثل الحارث بن كلدة الذي استند إلى التجارب التي أتاحتها له البيئة وظروف الحياة لتطويرعلاج المرضى.

الحالة الأخلاقية  

شهدت أخلاق العرب في الجاهلية تراجعًا واضحًا، حيث انتشرت بينهم بعض الممارسات السلبية مثل الإدمان على الخمر، والانغماس في القمار، وكثرة الغارات وقطع الطريق على القوافل. كما تفشت العصبية والظلم وسفك الدماء والأخذ بالثأر، فضلاً عن اغتصاب الأموال وأكل مال اليتامى والتعامل بالربا والسرقة والزنا. 

ومع ذلك، ينبغي التنويه بأن الزنا كان غالبًا مقتصرًا على الإماء والبغايا ذوات الرايات، ونادرًا ما يحدث بين الحرائر. ولعل قول السيدة هند بنت عتبة أثناء بيعة النساء للنبي ﷺ بعد فتح مكة دليل على مكانة الحرائر في هذا السياق، حيث قالت مستنكرة: "أوتزني الحرة؟"، مما يبرز نظرة العرب للاحتشام بين النساء الحرائر.

لكن هذا لا يعني أن الجميع كانوا يسلكون تلك السلوكيات، فقد وُجد بين العرب من كان يترفع عن هذه الأفعال، فلا يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يسفك الدماء، ويتحرج من أكل أموال اليتامى أو التعامل بالربا. كما برزت بينهم العديد من السمات والخصال الطيبة التي مهدت لاحتضانهم رسالة الإسلام وحمل رايتها، ومن أبرز هذه السمات:

1- الذكاء والفطنة: اتسم العرب بقلوب نقية لم تتلوث بالفلسفات والأساطير والخرافات العميقة التي انتشرت في شعوب كالهند والرومان واليونان والفرس. كانت هذه النقاة عاملًا مهيئًا لاستيعاب رسالة الإسلام النقية والخالدة. 

امتاز العرب بذاكرة قوية وفطرة سليمة جعلتهم من أبرز الشعوب في الحفظ والاستيعاب، بما يخدم نشر الدين الإسلامي وحمايته. ومن دلائل قدرتهم اللغوية وجود آلاف الأسماء المختلفة للحيوانات والأشياء، فقد أطلقوا مثلًا أكثر من ألف اسم للجمل وحده، وهو ما يعكس قوة ذاكرتهم وعمق لغتهم. بلغ بهم الذكاء حد فهم الإشارة دون الحاجة إلى العبارة الواضحة، والأمثلة على ذلك كثيرة في رياضتهم وفنون حياتهم اليومية.

2- الكرم والسخاء: كان الكرم سمة متأصلة لدى العرب؛ فقد بلغ بهم السخاء أن يذبح أحدهم فرسه أو ناقته لإكرام الضيف، حتى لو لم يمتلك شيئًا غيرها. لم يقتصر كرمهم على البشر فقط، بل امتد ليشمل الوحوش والطيور. وكرم حاتم الطائي خير مثال على ذلك، إذ أصبح مضرب الأمثال به.

3- الشجاعة والمروءة والنجدة: كان العرب يفاخرون بالموت في المعارك أكثر من الموت على الفراش، ويرون في القتل تحت ظلال الرماح وأطراف السيوف نهاية مشرفة تليق بهم. بالطبيعة . كانوا أصحاب شهامة ومروءة، وكانوا يأبون استغلال الضعفاء أو الاعتداء على النساء والمسنين أو العاجزين. إذا استنجد بهم الغريب لبّوا ندائه، واعتبروا الخذلان نقيصة ونذالة تُلحق العار بهم.

هذه السمات الأخلاقية، على الرغم من وجود بعض الجوانب السلبية، أهلتهم لتلقي رسالة الإسلام وإعادة توجيه ما لديهم من خير نحو بناء حياة متوازنة تعتمد على القيم الإلهية السامية.

4- عشق العرب للحرية ورفضهم للذل والضيم: كان جزءًا من فطرتهم الأصيلة. فالعربي كان يُحب البرية بطبيعته، يعيش لها ويموت دفاعًا عنها. لقد نشأ حُرًّا لا يتقبّل أن يهيمن عليه أحد، ورفضوا الحياة المهينة أو المساس بشرفهم وكرامتهم، حتى لو أدى ذلك إلى فقدان حياتهم. لم يكن الذل أو الإهانة أمرًا مقبولًا لديهم بأي حال من الأحوال. من الأمثلة البارزة على ذلك، قصة عمرو بن كلثوم:

كان عمرو بن هند، ملك الحيرة، يتفاخر أمام ندمائه وسألهم إن كانوا يعرفون امرأة عربية تأنف أمها خدمة أمه. فأجابوه بأن أم الشاعر عمرو بن كلثوم هي هذه المرأة. قرر الملك دعوة عمرو بن كلثوم وأمه إلى قصره لترتيب موقف يختبر ذلك. وخلال الوليمة، طلبت أم الملك من أم عمرو بن كلثوم أن تقدم لها طبقًا، فأجابتها بكل اعتزاز: "لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها". وعندما كررت الطلب بإلحاح، صاحت ليلى، أم عمرو بن كلثوم: "واذلاه يا لتغلب!" سمع ابنها الصوت، ثار غضبه، ورأى سيفًا معلقًا في رواق القصر، فتناوله وقتل به الملك عمرو بن هند، مُعلنًا موقفه الشجاع ورفضه للذل.

5- الوفاء بالعهد والتمسك بالصراحة والصدق:، فقد كان العرب شديدي الالتزام بهذه القيم. كانوا يرفضون الكذب بشدة وينبذونه، وكان الوفاء لديهم سمة بارزة في سلوكهم. وعكست شهادة اللسان وحدها مكانة الصدق لديهم، وهو ما جعل الشهادة كافية للدخول في الإسلام. يظهر ذلك جليًا حينما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي ﷺ أثناء وجود الحروب بين المسلمين وقريش. حينها قال أبو سفيان: "لولا الحياء من أن يؤثروا عليّ كذبًا لكذبت".

أما وفاؤهم، فقد وصفه النعمان بن المنذر لكسرى بأنه أمر راسخ في شخصية العربي. قال: العرب يلتزمون بما يوعدون عليه من لمحة أو إشارة، حتى لو كلفهم ذلك أرواحهم. فهم يراعون الأمانة حتى في أبسط الأشياء، ويضمنون سلامة المستجير بهم حتى لو كان ذلك يعني فناء قبيلتهم كاملة.

من القصص الشهيرة عن وفاء العرب قصة الحارث بن عباد خلال حرب البسوس. عندما أسر المهلهل، قاتل ولده، دون أن يعرف هويته، ساومه الحارث على دلالته على ذاته مقابل العفو عنه. فاعترف المهلهل بشجاعته قائلاً: "أنا هو". جزّ الحارث ناصيته وأطلق سراحه احترامًا للعهد.

كذلك قصة النعمان بن المنذر مع هاني بن مسعود الشيباني تُظهر معدن الوفاء العربي. عندما خاف النعمان على أهله وأسلحته من غدر كسرى، أودعها عند هاني. وعندما أرسل كسرى لطلبها، رفض هاني الاستجابة رغم التهديدات. جمع قومه وحثهم على مواجهة الموت بشرف بدل الحياة بالمهانة. استطاع آل بكر هزيمة جيش الفرس في معركة ذي قار بفضل عزيمتهم وإعلائهم لقيم الوفاء والكرامة.

كانت هذه القيم الأخلاقية متجذرة في طبع العرب قبل الإسلام، وجاء الإسلام ليُعزّزها ويوجهها الوجهة الصحيحة، مضيفًا عليها صبغة رسالية وأبعادًا روحانية أعمق تحفظ للنفس البشرية كرامتها وحقوقها دون إفراط أو تفريط.

6 - الصبر على الشدائد والرضا بالقليل: اعتاد العرب على ضبط النفس وتحمل الصعاب، وكانوا ينهون عن الإسراف في الأكل، معتبرين أن التخمة تُضعف الفطنة. كانوا ينتقدون الجشع والشراهة، وتجلّت قدرتهم الفريدة على التحمل في مواجهة الشدائد والمحن، وهو ما ربما اكتسبوه من بيئتهم الصحراوية القاسية ذات الموارد الشحيحة من ماء وزرع. 

كانوا معتادين على تسلق الجبال الوعرة، والسير تحت شمس الظهيرة الحارقة دون أن يشتكوا من الحر أو التعب أو بعد الطريق. بعد دخولهم الإسلام، ضربوا أمثلة رائعة في المثابرة والصبر، وكانوا يرضون بالقليل. يكفي الواحد منهم بضع تمرات وقليلًا من الماء ليواصل سيره أيامًا طويلة دون أن يُنهك.

7 - قوة الجسد وعظمة النفس وحماية الجار: برز العرب بقوة أجسادهم مقرونة بعظمة نفوسهم وقوتها الروحية. وعندما تندمج قوة الجسد مع معنويات النفس، تتحقق الإنجازات العظيمة، وهذا ما ظهر بدرجة أوضح بعد دخولهم الإسلام. لم تقتصر عظمتهم على القوة البدنية فقط، بل كانت تتجلى أيضًا في الترفع عن الانتقام، فحينما كانوا ينتصرون على أعدائهم لم يغدروا بالجرحى، بل عفوا عند المقدرة. إلى جانب ذلك، عُرفوا بحماية الجار وصون كرامته، لا سيما النساء، وتفانوا في إكرام المستجير حتى وإن كلفهم ذلك أنفسهم وأموالهم.

هذه الفضائل العميقة والعادات الحميدة كانت إرثًا متأصلًا في نفوس العرب. جاء الإسلام ليهذبها ويوجهها نحو الخير والعدل، ولهذا انطلقوا كأنهم ملائكة رحمة ينشرون الإيمان والفضيلة في الأرض التي كانت تغرق في الجهل والجور. ملأوا الدنيا عدلًا بعدما عمّها الظلم، وسلامًا بعد النزاعات، وخيرًا إثر موجات الشر التي طغت.

هذه الأخلاق كانت هي السمات الرئيسية لمجتمع الإنسان العربي قبل الإسلام، ما جعل هذا المجتمع الأفضل في زمانه. ولهذا اختار الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون منه، وفي هذه البيئة العربية الأصيلة التي امتازت بنقاء الفطرة وسلامة النفس وسمو الروح. لم يكن الاختيار من شعوب أخرى كالفُرس رغم علومهم الواسعة، ولا من الهنود رغم فلسفاتهم العميقة، ولا من الرومان مع إحكام فنونهم وبراعتهم، ولا حتى من اليونان المعروفين بعبقريتهم الشعرية وخيالهم الخصب. بل وقع الاختيار على العرب الذين كانوا يملكون تفوقًا فريدًا في نقاء الفطرة وحرية الضمير وتوازن الروح مقارنة ببقية الأمم.

تعليقات